فصل: القول العاشر:

مساءً 2 :30
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.القول العاشر:

ذهب البعض إلى أن المراد بالأحرف السبعة: سبعة أصناف من الكلام، وقد اختلف القائلون به في تعيين هذه السبعة، فقيل: إنها أمر، ونهي، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
واحتجوا بما أخرجه الحاكم، والبيهقي، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد وعلى حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا».
وهذا الرأي مردود من جهة الرواية والدراية والعقل بما يأتي:
1- أن هذا الحديث غير ثابت، فلا يصح الاحتجاج به، قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث لا يثبت؛ لأنه من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود، ولم يلق ابن مسعود.
وقال الحافظ في الفتح: وقد صحح الحديث المذكور (ابن حبان، والحاكم) وفي تصحيحه نظر؛ لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود.
ومعروف أن المنقطع من قبيل الضعيف، فلا يحتج به في مثل هذا مما يتعلق بالقرآن الكريم الذي هو أصل الدين، ومنبع الصراط المستقيم.
2- لو سلمنا جدلا أن الحديث ثابت، فليس تأويله كما قال هؤلاء، وإنما له تأويلات أخر:
أ- وذلك إما أن يكون قوله في الحديث: زاجر، وأمر... إلخ استئناف كلام وليس بيانا للأحرف، قال أبو العلاء الهمداني، وأبو عليّ الأهواني: إن قوله: زاجر وآمر استئناف كلام آخر، أي هو زاجر- القرآن- ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، وإنما توهم ذلك من توهمه من جهة الاتفاق في العدد.
ويؤيده أنه جاء في بعض طرقه: زاجرا، وآمرا- بالنصب- أي نزل على هذه الصفة من الأبواب السبعة.
ب- وإما أن تكون بيانا للأبواب السبعة لا للأحرف السبعة، قال العلامة أبو شامة: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب لا للأحرف السبعة أي هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وأنزله على هذه الأصناف، لم يقتصر منها على صنف واحد كغيره من الكتب.
وعلى هذه التأويلات لا يكون الحديث صالحا للاحتجاج به على ما ذهب إليه هؤلاء.
ج- وقال البيهقي: المراد بالسبعة الأحرف هنا: الأنواع التي نزل عليها والمراد بها في تلك الأحاديث: اللغات التي يقرأ بها، وكذلك قال القاضي أبو بكر الباقلاني، فكأن البيهقي يسلم أنها بيان للأحرف السبعة في هذا الحديث، لكن على معنى آخر مغاير للمعنى الذي أريد من حديث إنزال القرآن على سبعة أحرف، وهي المعاني أي المقاصد.
3- هذه الأنواع لا تصلح أن تكون تفسيرا للأحرف السبعة لأن الغرض منها كان التوسعة على الأمة والتيسير بالتعبير في القراءة بأي حرف منها، وما ذكروه من الأنواع لا يتأتى فيه البتة التوسعة والتيسير لأن التوسعة لم تقع في تحليل حرام ولا في تحريم حلال، ولا في إبدال أمر بنهي ولا نهي بأمر ولا محكم بمتشابه ولا عكسه... وهكذا.
فكل هذا مما أجمع العلماء قاطبة على أنه لا يجوز، قال ابن عطية: هذا القول ضعيف، لأن هذه لا تسمى أحرفا فالإجماع على أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام ولا في تغيير شيء من المعاني المذكورة.
ولعلك على ذكر من مقالة الإمام الزهري التي ذكرناها في صدر البحث من حديث مسلم.
4- هذا القول يلزم منه رد كل الأحاديث الصحيحة التي قدمناها في صدر المبحث والتي تدل على اختلاف الصحابة، ورفع الأمر إلى الرسول، وإقرار كل واحد على قراءته وحرفه، إذ مستحيل أن يقر النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ الأمر نهيا، أو النهي أمرا، أو قرأ بدل الأمثال أحكاما، ومن قرأ بدل الأحكام أمثالا، وهكذا، وهو أمر ننزه عنه أي عاقل، فضلا عن أعقل العقلاء.
ورد كل هذه الروايات الصحيحة الموثوق بها لأجل رواية ضعيفة ليس من قواعد البحث العلمي الصحيح في شيء، ولعل في حمل هذا الحديث على ما ذهب إليه البيهقي، والقاضي الباقلاني ما يربأ بالقائلين بهذا القول عن هذه السقطة التي لا لعا لهم منها، وهو ما يليق بحالهم كعقلاء، فإذا كان هذا مقصدهم فقد كفانا الله وإياهم شر الجدال والنزاع.

.أقوال أخرى:

وهناك أقوال أخرى في بيان الأصناف السبعة وإليك بعضها، فقيل:
وعد، ووعيد، وحلال، وحرام، ومواعظ، وأمثال، واحتجاج، وقيل: محكم، ومتشابه، وناسخ، ومنسوخ، وخصوص، وعموم، وقصص، وقيل: إظهار الربوبية، وإثبات الوحدانية، وتعظيم الألوهية، والتعبد لله، ومجانبة الإشراك، والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب.
وقيل: إنها من أسماء الرب مثل: الغفور الرحيم، السميع العليم، العليم الحكيم، وهكذا... يعني في إبدال بعضها ببعض.
وكلها أقوال باطلة وليس عليها أثارة من علم أو برهان، ومردودة بما رددنا به القول العاشر.
وإن لنا لوقفة عند هذا الرأي الأخير والمجوز لتبديل فواصل الآي بعضها ببعض مما هو من صفات الرب، فإن هذا خلاف الإجماع، ويؤدي إلى ذهاب بعض الإعجاز، فإن من إعجاز القرآن هذا التناسب والترابط بين الآية وخاتمتها، فلو جاز إبدال خاتمة بأخرى لعاد بالخلل على إعجاز القرآن.
قال القاضي عياض- نقلا عن المازري- قال: وقول من قال: المراد خواتيم الآي فيجعل مكان {غفور رحيم}، {سميع بصير} فاسد أيضا للإجماع على منع تغيير القرآن للناس.

.إزالة شبهة في هذا المقام:

فإن قيل: فما تقول فيما ذكره السيوطي في الإتقان، حيث قال: وعند أبي داود عن أبيّ قلت: سميعا عليما، عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو رحمة بعذاب.
وعند أحمد من حديث أبي هريرة: «أنزل القرآن على سبعة أحرف: عليما حكيما، غفورا رحيما» وعنده أيضا من حديث عمر: «بأن القرآن كله صواب، ما لم تجعل مغفرة عذابا، وعذابا مغفرة» قال: أسانيدها جياد.
قلت في الجواب: إن هذه الروايات مهما بلغت من الجودة في الإسناد- على حسب ما زعم السيوطي- فهي مردودة لمخالفتها لما جاء به القرآن من أنه لا يجوز إبدال كلمة بأخرى، قال تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} الآية، وقال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ} الآية، ولمخالفتها لما أجمع عليه العلماء، وأجمعت عليه الأمة من أنه لا يجوز وضع فاصلة ولا رأس آية مكان أخرى؛ لأن موافقة أواخر الآيات لصدورها من أسرار إعجاز القرآن الكريم، وهذا النظم الكريم الذي جاء في المصاحف قد أجمع عليه العلماء، وثبت بالتواتر المفيد للقطع واليقين، فلا تعارضه روايات آحادية مهما بلغت أسانيدها من الصحة أو من الحسن أو الجودة، لأن الآحادي لا يعارض التواتر ولا يقوى على مناهضته.
وعلى فرض تسليم ثبوت هذه الروايات قد تأول العلماء هذه الأحاديث على غير ظاهرها؛ لوجود الصارف لها، وهو ما قدمناه من الإجماع على عدم جواز ذلك.
قال الإمام ابن عبد البر- في رواية أبي داود-: إنما أراد ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها، أنها معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: وهذه أيضا سبعة غير السبعة التي هي وجوه وطرائق، وغير السبعة التي هي قراءات وتوسع فيها، وإنما هي سبعة أوجه من أسماء الله تعالى. وإذا ثبتت هذه الرواية- رواية أبي- حمل على أن هذا كان مطلقا ثم نسخ، فلا يجوز للناس أن يبدلوا أسماء الله في موضع بغيره مما يوافق معناه أو يخالفه، وهو تأويل كما ترى.
وشكك في صحتها بعض العلماء فقال صاحب التبيان: وكأن بعض الحفاظ ينكر صحة هذه الرواية، فإنه قال- في إثبات ما ذهب إليه من عدم جواز الرواية بالمعنى- وبرهان ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم البراء بن عازب دعاء، وفيه «ونبيك الذي أرسلت» فلما أراد البراء أن يعرض ذلك الدعاء على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ورسولك الذي أرسلت» فأمره عليه السلام أن لا يضع: رسول في موضع لفظة: نبي وذلك حق لا يحيل معنى وهو عليه الصلاة والسلام رسول ونبي، فكيف يسوغ للجهال المغفلين أن يقولوا: إنه عليه الصلاة والسلام كان يجيز أن يوضع في القرآن مكان {عزيز حكيم}، {غفور رحيم} أو {سميع عليم}، وهو يمنع من ذلك في دعاء ليس قرآنا، والله يقول- مخبرا عن نبيه-: {ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي} ولا تبديل أكثر من وضع كلمة موضع أخرى!
أقول: ومما ينبغي أن يعلم أن مخالفة المروي للقرآن أو لما اشتهر من السنة أو لإجماع العلماء مما يقلل الثقة بالرواية ويجعلها في عداد الروايات الواهية التي لا يحتج بها.
وأما رواية أبي هريرة فليس فيها ما يدل على وضع أحدهما مكان الآخر.
والظاهر: أن المراد بالحرف في هذا الحديث غيره في حديث نزول القرآن على سبعة أحرف المشهور، فالمراد به هنا: سبعة أوجه من أسماء الله تعالى، وبمثل هذا قال القاضي الباقلاني في الحديث السابق.
وأما حديث عمر فليس فيه ما يدل على جواز إبدال فاصلة بأخرى، ومراد النبي بقوله: «إن القرآن كله صواب» يعني في حدود المنزل من عند الله على نبيه، وما تلقاه المسلمون عن النبي فهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: «فأي حرف قرءوا عليه، فقد أصابوا».
والدليل على أن هذا التأويل هو المتعين في حديث عمر هي القصة التي ورد بسببها هذا القول، ذلك أن عمر اختصم مع آخر بسبب قراءة كلمة من القرآن فذهبا إلى النبي، فصوب قراءتيهما، وبين أن الكل من عند الله، فدخل قلب عمر من ذلك شيء، فضرب النبي في صدره وقال: «أبعد شيطانا» ثم قال: «يا عمر، القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذابا... إلخ» ويكون المقصود بقوله: «ما لم تجعل... إلخ» النهي عن وضع شيء ما موضع آخر من غير نظر إلى تخصيص ذلك بالرحمة والعذاب.